يشتكي الكثير منا أنه حين يأمر أبناءه بفعل شيء من الطاعات أو العبادات، أو حتى الأمور الأخرى كالواجبات الدراسية، أو غير ذلك، يجد من الأولاد صدودا وإعراضا، ولا يجد منهم تجاوبا وامتثالا.
والذي ينظر في قول الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [102: الصافات] يجد أن إبراهيم عليه السلام يعرض على ابنه الصغير هذا الأمر الشاق العسير ومع ذلك يجد القبول والامتثال الذي ليس له نظير.
لكنك تلمح في ثنايا هذه الآية الكريمة فنون التربية من الأب لابنه، وإن كان الأمر لم يقتصر على هذا الموقف؛ فالأصل أن من قبله جهدا كبيرا وعملا متواصلا من أجل أن يكون هذا الابن على هذا المستوى التربوي.
لكن في الآية الكريمة تستشعر مدى الصحبة القوية بين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}, وكان الأب يشعر ابنه إذا بلغ مبلغ الفتيان أنه لا يمثل له الأب فقط، إنما هو أب وصاحب له أيضا؛ وهذا له دور كبير في إزالة الحواجز بين الآباء والأبناء؛ فيشعر الأبناء بقرب الآباء، ويكون الأب هو المرجعية لابنه وابنته في كل ما يتعرض له, فيشاركه همومه ومشكلاته وأحلامه وتطلعاته.
وتستشعر أيضا رابطة المحبة الجياشة من قول إبراهيم عليه السلام: (يا بني)؛ فهو قبل أن يأمره بالأمر الشاق العسير يعلمه أنه أحب الناس إليه؛ فالرابطة التي بينهما هي رابطة الأبوة والبنوة التي هي أحن الروابط وأعلاها شفقة ومحبة بين الناس, ويحرص إبراهيم عليه السلام على إظهار ذلك لأبيه, حتى لا يتسرب إلى نفس الابن أن الأب قاس عليه, أو يكلفه بما يرهقه.
وتستشعر من الآية الكريمة أيضا حرص إبراهيم عليه السلام أن يشعر إسماعيل على صغره بقدره وقيمته، وأنه إنسان له مكانته وقدره عند أبيه, فحاجة الابن للشعور بالتقدير والاحترام من الأبوين من الحاجات الأساسية التي يحتاج إليها الأبناء من الآباء حتى ينشئوا ولهم شخصيتهم وشعورهم بقدرهم ومنزلتهم.
وتستشعر من الآية الكريمة حرص إبراهيم عليه السلام على غرس مبدأ الشورى في نفس إسماعيل عليه السلام؛ فعلى الرغم من أن الأمر رباني لا محيد عنه ولا مناص منه، إلا أن إبراهيم عليه السلام يقول لابنه (فانظر ماذا ترى) ليتعلم أن يكون له رأي، وأن يفكر في الأمر, وأن يشارك أباه في كل مهم.
وتستشعر من الآية أيضا أن أسلوب الأمر والبيان حينما يأتي بصيغة الأمر والتكليف من الأب للابن على سبيل الإجبار الذي لا خيار للولد فيه قد يرفضه، أما حينما يكون الأمر قائما على نوع من الحرية والاختيار من قبل الأبناء، وأن يبين الآباء أنهم لا يفعلون ذلك لأنفسهم إنما لما فيه الصلاح للأبناء فذلك يكون أكثر قبولا وامتثالا من الأبناء.
وفوق كل ذلك كيف يبين إبراهيم عليه السلام أنه لا يفعل ذلك لشيء يريده هو إنما هذا أمر من الله تعالى الذي يجب أن نطيعه ونمتثل لأمره, وفي ذلك من التربية على ربط كل أمر في الحياة بالغاية التي خلق من أجلها الإنسان وهي العبودية لله جل في علاه وامتثال أمره, وفي ذلك من البعد الإيماني العظيم الذي يجعل الأبناء مرتبطين بخالقهم ودينهم في كل أمور حياتهم فيتربون على الإخلاص لله تعالى، وتحقيق العبودية لله تعالى.
ولا شك أن بعد ذلك الجهد والتربية الصحيحة التي تصل إلى القلب والعقل وتؤثر في أعماق النفس سيكون الامتثال من الأبناء بتوفيق الله تعالى، ويكون على حال أفضل وأحسن بكثير مما يتمناه الآباء بتوفيق الله تعالى, ولذلك كان الجواب من إسماعيل عليه السلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
ولذلك فحينما نقوم بتربية أبنائنا ينبغي أن نجتهد أن تكون لنا طريقة في التربية صحيحة حتى نصل إلى الهدف المطلوب الذي فيه صلاح أبنائنا في دنياهم وأخراهم.
وأهم هذه الأمور:
1- استشعار الأمانة والمسئولية بين يدي الله تعالى عن الأولاد الذي رزقهم الله لنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».
2- القدوة من الآباء للأبناء بحيث يعطي الآباء للأبناء صورة صحيحة عن التمسك بالدين، والالتزام بالأخلاق بالقول قبل العمل؛ فيكون ذلك أقوى وأنفع.
3- استحضار نية تربية جيل يشارك في نهضة المسلمين، وأن يكون من بينهم العلماء والمخترعون، وأصحاب القدرات والكفاءات التي تنتشل الأمة من كبوتها وتعيدها إلى سالف مجدها من جديد.
4- تربية الابن على أن يكون له هدف في الحياة، وعلى الدوام نشجعه على تحقيق ذلك الهدف، ونبرمج حياته على ذلك، ونسأله دائما ماذا فعلت أو ماذا تفعل لتحقيق هذا الهدف؟ إن هذا الهدف يتطلب منك كذا وكذا وكذا؛ فيظل مرتبطا به على الدوام، ولا يضيع حياته في اللهو واللعب.
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
5- الحرص على تشجيع الأبناء، وبث روح الأمل والثقة في نفوسهم بالتحفيز والهدايا بدلا من التأنيب والشتم والعقاب؛ فالتشجيع يفعل فعل السحر، أما التأنيب فيحبط القدرات، ويجر إلى الوراء.
6- تقديم أمثلة واقعية من الشخصيات المتفوقة والمبدعة في تاريخ الإسلام الماضي والحاضر، وجعلها قدوة لهم ومثلا أعلى ليحاولوا السير في طريق الإبداع والتفوق على أنه شيء ممكن التحقيق وليس مستحيلا.
7- تربية الأبناء على الاستقامة، والبعد عن الانحراف، والحرص على ارتباطهم بالله في كل شئونهم؛ فإن ذلك يؤدي إلى التفوق والتوفيق والبركة في الحياة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ}.
8- تذكروا دائما أيها الآباء أن تقوى الآباء تنفع الأبناء (التقوى تنفع الذرية) قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}.
9- أهمية الحرص على اختيار الصديق الصالح، وأن يكون للآباء دور في ذلك بطريقة غير مباشرة، وأن يتفقدوا حال هؤلاء الأصدقاء، وأن يدعوهم إلى البيت فيكرموهم ويتحدثوا معهم ويتعرفوا على أحوالهم ومدى مناسبتهم.
10- الحوار الهادف البناء بين الآباء والأبناء الذي يقوم على الاحترام والتقدير من كلا الجانبين، ويعتبر كل واحد منهما صديقا للآخر.
وأولا وآخرا وقبل ومع وبعد الأخذ بالأسباب نداوم على الاستعانة بالله تعالى أن يبارك في أبنائنا، وأن يجعلهم زخرا للإسلام والمسلمين، وأن يصنعهم على عينه ليحملوا عبء أمتنا الغالية، ويكونوا يوما ما صناعا لمستقبل الإسلام وحضارة المسلمين.
والله ولي التوفيق.